بطليموس الأول سوتير واليًا (ساتراب) على مصر
بعد موت الإسكندر الأكبر في بابل بشكلٍ مفاجئ، قرر كبار قادة جيشه تنصيب أخيه غير الشقيق فيليب أرهيدايوس ملكًا جديدًا، على أن يكون تحت وصاية مباشرة من برديكاس أكبر قادة الإمبراطورية، وأن يتم تعيين قادة الجيش كولاةٍ على الأقاليم المختلفة، وكانت مصر من نصيب بطليموس والذي بتعيينه واليًا عليها بدأ حكم البطالمة في مصر.
من هو بطليموس؟
من المرجح أن والدة بطليموس (تُدعى أرسينوي) كانت امرأة من العائلة المالكة في مقدونيا، أما والده فقد اختلفت فيه الآراء، فمنها ما ينسبه إلى شخص يُدعى لاجوس من نبلاء مقدونيا، ومنها ما ينسبه إلى الملك فيليب الثاني والد الإسكندر، بوصفه ابنًا غير شرعيٍ له، ومن الواضح أن هذا الرأي قد استُخدِم بقصد تعظيم السلالة البطلمية، وتأكيد وجود الدماء الملكية فيها.
على أي حالٍ، فقد نشأ بطليموس في قصر فيليب ملك مقدونيا، ومن هنا بدأت صداقته المبكرة مع الإسكندر، وأصبح من المقربين منه عندما اعتلى الأخير عرش مقدونيا.
كان بطليموس محل ثقة الإسكندر، وملازمًا له في معاركه وحملاته الحربية، ويبدو أنه كان مرافقًا له أيضًا أثناء غزوه لمصر، وشهد وضع حجر الأساس لمدينة الإسكندرية كعاصمة مستقبلية للبلاد، وكان بطليموس مؤرخًا لغزوات الإسكندر الكثيرة، ودوَّن أحداثها بالتفصيل في مذكراته.
كانت العلاقة القوية التي تربط بطليموس بالإسكندر المقدوني سببًا في أن يترقى من مجرد جندي عادي إلى أن يصبح من القادة الرئيسيين للجيش، حيث أسند له الإسكندر مهامًا كبيرة خلال الحروب ضد الفرس، كما أصبح في 330 ق.م. أحد القادة السبعة الذين يتألف منهم المجلس الحربي الأعلى، وكان هؤلاء السبعة بمثابة الحرس الشخصي للملك، وملازمين له في كل تحركاته.
عُرِف عن بطليموس ولعه الشديد بالنساء، ولذلك تعددت زيجاته، فتزوج بفارسية تُدعى أرتاكاما عام 324 ق.م.، ثم تزوج بيونانية تُدعي ثايس وأنجب منها ابنًا يُدعى لاجوس وبنتًا تُدعى إيريني، ثم كان زواجه الثالث سياسيًا على ما يبدو، من ابنة أنتيباتور حاكم مقدونيا وتُدعى يوريديكي، وأنجب منها خمسة أبناء، منهم بطليموس كيراونوس الذي أصبح ملكًا لمقدونيا من 281 ق.م. إلى 279 ق.م.
وفي 317 ق.م. تزوج بطليموس بأرملة مقدونية تُدعى برينيكي وأنجب منها ابنة تُدعى أرسينوي، وابناً يُدعى بطليموس فيلادلفوس (وهو الذي سيخلفه في حكم مصر).
بطليموس الأول واليًا (ساتراب) على مصر (323 ق.م. - 305 ق.م)
عقب وفاة الإسكندر، تم تعيين بطليموس ساتراب (والي) مصر نيابة عن الملكين الأسميين فيليب أرهيدايويس والرضيع الإسكندر الرابع، وبالطبع كان هذا التعيين بمباركة برديكاس الذي كان نائبًا عن الملك ومشرفًا عليه، إلا أن بطليموس كان عليه أن يتقبل وجود كليومنيس النقراطيسي شريكًا له في حكم مصر، فهذا الأخير كان قد عُيِن من قِبل الإسكندر كمسؤولٍ ماليٍ عن مصر، وجامعٍ للضرائب فيها.
كانت سياسة بطليموس في تلك المرحلة هي وضع الأسس التي سوف يبني عليها مملكته الخاصة في مصر، لذا كان عليه انتهاز كل الفرص التي تلوح في الأفق بحسب الظرف القائم في ذلك الوقت، وقد بدأ بطليموس حكمه واليًا لمصر بالتدخل المباشر لنقل مسار جثمان الإسكندر إلى مصر كي يُدفن فيها بدلًا من مقدونيا، كما كان برديكاس قد قرر.
ولا شك أن دفن الإسكندر في مصر سوف يمنح المملكة التي يخطط بطليموس لإقامتها، قدسيةً كبيرةً، كما سيمنحه وخلفاءه من بعده شرعيةً لا جدال فيها.
التخلص من كليومنيس والمواجهة مع برديكاس
كان برديكاس -الذي يُعد أقوى شخص على مسرح الأحداث في ذلك الوقت- قد أبقى كليومنيس في منصبه المالي بمصر حتى بعد تعيين بطليموس واليًا عليها، والذي يظهر أن كليومنيس كان صديقًا لبرديكاس، ومقربًا إلى السلطة المركزية، ومن ثم فقد رأى بطليموس فيه تهديدًا واضحًا لخططه في الانفرادِ بحكم مصر.
انتهز بطليموس سخط المصريين الشديد تجاه سياسات كليومنيس في جمع الضرائب، فوجه له اتهاماتٍ مباشرة بالمبالغة في جمع الضرائب، بل وبأنه يجمعها لحسابه الخاص، وأمر بإعدامه.
في الواقع فإن التخلص من كليومنيس إن كان قد وضع بطليموس على شفا صدامٍ حتميٍ مع برديكاس، فإنه قد أفاده في جوانبٍ أخرى؛ فهو الآن قد انفرد بحكم البلاد دون شريك، بل وظهر بمظهر الوالي المتعاطف مع الشعب والرافض للسياسات المالية التعسفية، فضلًا عن استيلائه على ما كان بحوزة كليومنيس من أموالٍ قد جمعها، واستخدام ذلك المال في جلب المرتزقة من مقدونيا واليونان لتكوين جيشٍ قويٍ يساعده في تحقيق طموحاته في التوسعِ شرقًا وغربًا.
وبالفعل فبالتزامن مع التخلص من كليومنيس بدأ بطليموس في التوسع غربًا واستولى على برقة وطرابلس والقيروان، وعين أوفيلاس نائبًا عنه في حكم تلك المناطق.
استشاط برديكاس غضبًا، وعزم على خلع بطليموس من ولاية مصر، والقضاء عليه، وبالفعل تحرك على رأس جيشٍ كبيرٍ بإتجاه مصر، ووصل بجيشه إلى بيلوزيوم (بورسعيد حاليًا) في 321 ق.م.، ولكن لحسن حظ بطليموس فقد اندلع تمرد كبير في صفوف جيش برديكاس، وانتهى باغتياله على أيدي مجموعة من ضباطه، وتسبب هذا الأمر في انتصار بطليموس وإجلاء جيش برديكاس عن مصر.
كان بمقدور بطليموس في ذلك الوقت أن يحل محل برديكاس ويصبح الرجل الأول في إمبراطورية الإسكندر، ولكنه فضل أن يترك الأمر للقادة الآخرين، وأن يحصن مركزه داخل مصر، ويعمل على توسيع حدودها الغربية.
تحالفات بطليموس مع باقي القادة
التحالف الأول
في أعقاب تلك الأحداث، اجتمع قادة جيش الإسكندر في بلدة تُسمى تريباراديسوس Triparadisus تقع في شمال سوريا، وذلك لمناقشة أوضاع أقاليم الإمبراطورية بعد موت برديكاس، وكما ذكرنا فإن بطليموس لم يكن يرغب في أن يحل محل برديكاس.
قرارات اجتماع تريباراديسوس
- جعل أنتيباتور وصيًا على مملكة الإسكندر بدلًا من برديكاس.
- بقاء بطليموس حاكمًا على مصر وبرقة.
- ترك الحرية لأنتيجونس في أن يحكم ولايات آسيا حكمًا مطلقًا غير مقيد بالرجوع لأي جهة.
- تعيين لاوميدون حاكمًا على سوريا.
- تعيين سيلوكس حاكمًا على بابل.
وتسمى المدة بين 321 ق.م. - 319 ق.م. بمدة التحالف الأول، فبموت أنتيباتور في 319 ق.م. تحرك بطليموس للاستيلاء على أورشليم، وكانت تلك المنطقة تتبع لاوميدون حاكم سوريا، فأراد بطليموس الحصول عليها منه عن طريق الشراء، إلا أن عرضه قوبل بالرفض، فقرر أن يستولي عليها بالقوة، ويُقال أنه دخلها يوم سبت، حيث يمتنع اليهود بسبب عقيدتهم عن القتال في يوم السبت، وبالتالي تمكن من تحقيق النصر والاستيلاء على المدينة بسهولة.
التحالف الثاني
في عام 316 ق.م. قام أنتيجونس حاكم ولايات آسيا بمهاجمة سيلوقس حاكم بابل، مما دفع الأخير للهرب إلى مصر طالبًا النجدة من بطليموس، وبينما كان بطليموس يستعد لمواجهة أنتيجونس؛ لم يهمله هذا الأخير، وقام بمهاجمة سوريا في 315 ق.م. وألحق الهزيمة ببطليموس، وأجبره على الانسحاب إلى داخل مصر بعد أن جرده من كافة ممتلكاته في فلسطين.
وفي المقابل كان بطليموس قد استولى على جزيرة قبرص، وجعلها قاعدةً بحريةً يحارب أنتيجونس من خلالها، وكان سيلوقس يقود أسطول بطليموس في ذلك الوقت.
ترك أنتيجونس ابنه ديمتريوس حاكمًا على سوريا، وكان بطليموس عازمًا على استردادها مرةً أخرى، فخرج من مصر بجيشه وواجه ديمتريوس عام 312 ق.م. وانتصر عليه في موقعة غزة، واستطاع استعادة سوريا مرةً أخرى.
إلا أن الأمر لم ينتهِ عند هذا الحد، حيث عاد ديمتريوس بعد عامٍ واحد، وهزم جيش بطليموس في سوريا وايتعادها منه مرةً أخرى، ولسوء حظ بطليموس، قامت ثورة في القيروان في التوقيت نفسه، على نائبه أوفيلاس.
التحالف الثالث
تسببت الهزائم التي مني بها بطليموس في الشرق، بجانب الثورات في الغرب، في تراجع خططه التوسعية، وضعف موقفه أمام أنتيجونس وابنه ديمتريوس، مما دعاه إلى عقد تحالفٍ ثالثٍ عام 311 ق.م. مع كاسندر حاكم مقدونيا واليونان، وليسماخوس حاكم آسيا الصغرى، وسيلوكس حاكم بابل، حيث اتحدوا جميعًا لعقد هدنة مع أنتيجونس، بشرط أن يتنازل له بطليموس عن سوريا بشكلٍ نهائي.
وجه بطليموس اهتمامه نحو قبرص التي كانت لا تزال تحت سيطرته، وعمِل على تقوية أسطوله البحري، حيث كان يخطط لغزو بلاد اليونان، ولكن تطلعات بطليموس الجديدة ذهبت أدراج الرياح بعدما قام ديمتريوس بمهاجمته في قبرص، وألحق به هزيمة ساحقة في معركة سلاميس البحرية عام 306 ق.م. ،حتى إن منيلاوس شقيق بطليموس وحاكم قبرص قد وقع في الأسرِ.
مع كل تلك الهزائم المتلاحقة، وخسارة سوريا وقبرص والقيروان، رأى بطليموس أنه من الحكمة أن يرجع إلى مقره الحصين في مصر، وفي ظل الأحداث المتلاحقة في مقدونيا ومقتل فيليب أرهيدايوس بمؤامرة من أوليمبياس أم الإسكندر، ثم مقتل أوليمبياس نفسها، وروكسانا أرملة الإسكندر، وطفلها الصغير الإسكندر الرابع، على يد كاسندر حاكم اليونان، فلم يبق بذلك أي شخص من عائلة الإسكندر الأكبر، وبدأ حكام الأقاليم يمنحون أنفسهم ألقاب الملك، فكان أنتيجونس هو أول من لقَّب نفسه ملكًا عام 306 ق.م. بعد النصر الكبير في سلاميس، وسار بطليموس على نفس المنوال، وأعلن نفسه ملكًا على مصر في عام 305 ق.م.، وأصبح اسمه يكتب داخل الخراطيش الملكية، بنفس الطريقة التي كانت تكتب بها أسماء الملوك الفراعنة.
وبذلك يبدأ بطليموس الفصل الثاني من حكمه لمصر، ليصبح ملكًا، معتبرًا نفسه وريثًا وخليفة للفراعنة على عرش مصر، وبدأ الكهنة المصريون يطلقون عليه ألقاب ملوك مصر القدماء.
التالي: